الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وَقَالَ الشيخ الإمام العَلامـــة، القدوة العارف الفقيه، الحافظ الزاهد العابد، السالك الناسك، مفتى الفرق ركن الشريعة، عالم العصر،فريد الدهر، ترجمان القرآن، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني - تغمده اللّه برحمته: في أقسام القرآن وهو ـ سبحانه ـ يقسم بأمور على أمور، وإنما يقسم بنفسه المقدسة الموصوفة بصفاته، أو بآياته المستلزمة لذاته وصفاته، وإقسامه ببعض المخلوقات دليل على أنه من عظيم آياته. فالقسم إما على جملة خبرية، وهو الغالب، كقوله تعالى: وإما على جملة طلبية، كقوله تعالى: فأما الأمور المشهودة الظاهرة كالشمس والقمر، والليل والنهار، والسماء والأرض، فهذه يقسم بها ولا يقسم عليها، وما أقسم عليه الرب ـ عز وجل ـ فهو من آياته، فيجوز أن يكون مقسمًا به ولا ينعكس. وهو - سبحانه - يذكر جواب القسم تارة وهو الغالب،وتارة يحذفه كما يحذف جواب لو كثيرًا، كقوله تعالى: ومثل هذا حذفه من أحسن الكلام؛ لأن المراد: أنك لو رأيته لرأيت هولاً عظيمًا، فليس في ذكر الجواب زيادة على ما دل....[سقط بالأصل] المحرم وهو أيضًا تنبيه. فإذا أقسم به وفيه الحلال، فإذا كان فيه الحرام كان أولى بالتعظيم، وكذلك إذا أريد الحلول فإنه هو السلبي، فالمعنى واحد. وقد أقسم بـ والقدرة والعلم بهما يحصل الجزاء، بل بهما يحصل كل شىء، وإخباره ـ تعالى ـ بأنه قادر وأنه عالم يتضمن الوعيد والتهديد؛ فإنه إذا كان قادرًا أمكن الجزاء، وإذا كان عالمًا أمكن الجزاء، فبالعدل يقدر ما عمل، ومن لم يكن قادرًا عالمًا لم يمكنه الجزاء؛ فإن العاجز عن الشخص لا يمكنه جزاؤه، والذي له قدرة لكن لا يرى ما فعل إن جازاه بلا علم كان ظالمًا معتديًا، فلابد له من العلم بما فعل. ولهذا كان الحاكم يحتاج إلى الشهود، والملوك يحتاجون إلى أهل الديوان يخبرونهم بمقادير الأموال وغيرها؛ ليكون عملهم بعلم...[بياض بالأصل] ذكر أنه خلق الإنسان في كبد، أيحسب أن لن يقدر عليه أحد؟ و[لن] لنفي المستقبل، يقول: أيحسب أن لن يقدر عليه في المستقبل أحد؟ ولهذا كان ذاك الخائف من ربه، الذي أمر أهله بإحراقه وذرايته، يعلم أن الجزاء متعلق بالقدرة، فقال: (لئن قَدَر اللّه عليّ ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين). وهو ـ سبحانه ـ يهدد بالقدرة لكون المقدور يقترن بها، كما يهدد بالعلم لكون الجزاء يقع معه، كما في قوله تعالى: وكذلك في العلم بالرؤية، كقوله هنا:
وهو ـ سبحانه وتعالى ـ لما أقسم بـ [الصافات] و[الذاريات] و [المرسلات] ذكر المقسم عليه. فقال تعالى: وكذلك مشركو العرب، قال تعالى: فكانت هذه الأمم المكذبة للرسل المشركة بالرب مقرة باللّه وبملائكته، فكيف بمن سواهم؟ فعلم أن الإقرار بالرب وملائكته معروف عند عامة الأمم؛ فلهذا لم يقسم عليه وإنما أقسم على التوحيد؛ لأن أكثرهم مشركون. وكذلك [الذاريات] و[الحاملات] و[الجاريات]، هي أمور مشهودة للناس، و[المقسمات أمرًا] هم الملائكة، فلم يكن فيما أقسم به ما أقسم عليه، فذكر المقسم عليه، فقال تعالى: و [المرسلات] سواء كانت هي الملائكة النازلة بالوحي والمقسم عليه الجزاء في الآخرة، أو الرياح، أو هذا وهذا، فهي معلومة أيضًا. وأما فأما ما وقع فإنما فيه الصبر والتسليم والرضى، كما في حديث عمار بن ياسر ـ رضي اللّه عنه ـ مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم:(أسألك الرضا بعد القضاء)، وقول:(لا حول ولا قوة إلا باللّه) يوجب الإعانة؛ ولهذا سنها النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قال المؤذن: (حي على الصلاة. فيقول المجيب: لا حول ولا قوة إلا باللّه، فإذا قال: حي على الفلاح. قال المجيب: لا حول ولا قوة إلا باللّه). وقال المؤمن لصاحبه: ومعلوم أنه لا يكون شىء إلا بمشيئة اللّه وقدرته، وأن الخلق ليس منهم شيء إلا ما أحدثه اللّه فيهم، فإذا انقطع طلب القلب للمعونة منهم وطلبها من اللّه فقد طلبها من خالقها الذي لا يأتي بها إلا هو، قال تعالى: وقال صاحب يس: واللّه تعالى أمر بعبادته والتوكل عليه، قال تعالى: وقال شعيب: فافترق الناس هنا أربعة أصناف: صنف لا يعبدونه ولا يتوكلون عليه، وهم شرار الخلق. وصنف يقصدون عبادته بفعل ما أمر، وترك ما حظر،لكن لم يحققوا التوكل والاستعانة، فيعجزون عن كثير مما يطلبونه، ويجزعون في كثير من المصائب. ثم من هؤلاء من يكذب بالقدر، ويجعل نفسه هو المبدع لأفعاله، فهؤلاء في الحقيقة لا يستعينونه ولا يطلبون منه صلاح قلوبهم، ولا تقويمها ولا هدايتها، وهؤلاء مخذولون كما هم عند الأمة كذلك، وقوم يؤمنون بالقدر قولاً واعتقادًا، لكن لم تتصف به قلوبهم علمًا وعملاً، كما اتصفت بقصد الطهارة والصلاة، فهم أيضًا ضعفاء عاجزون. وصنف نظر إلى جانب القدرة والمشيئة،وأن اللّه تعالى هو المعطي والمانع، والخافض والرافع، فغلب عليهم التوجه إليه من هذه الجهة والاستعانة به، والافتقار إليه لطلب ما يريدونه، فهؤلاء يحصل لأحدهم نوع سلطان وقدرة ظاهرة أو باطنة وقهر لعدوه؛ بل قتل له ونيل لأغراضه، لكن لا عاقبة لهم؛ فإن العاقبة للتقوى، بل آخرتهم آخرة ردية. وليس الكلام في الكفار والظلمة المعرضين عن اللّه،فإن هؤلاء دخلوا في القسم الأول الذين لا عبادة لهم ولا استعانة،ولكن الكلام في قوم عندهم توجه إلى اللّه وتأله، ونوع من الخشية والذكر والزهد، لكن يغلب عليهم التوجه بإرادة أحدهم وذوقه ووجده، وما يستحليه ويستحبه، لا بالأمر الشرعي وهم أصناف: منهم المعرض عن التزام العبادات الشرعية، مع ما يحصل له من الشياطين من كشف له أو تأثير، وهؤلاء كثير منهم يموت على غير الإسلام. ومنهم من يقوم بالعبادات الشرعية الظاهرة كالصلاة، والصيام، والحج، وترك المحرمات، لكن في أعمال القلوب لا يلتزم الأمر الشرعي؛ بل يسعى لما يحبه ويريده، واللّه تعالى قال: وقد يقول الواحد من هؤلاء: أنا آخذ من اللّه وغيري يأخذ من محمد صلى الله عليه وسلم، فيرى بحاله في ذاك وتفرده أن ما أوتيه من التصرف والمكاشفة، يحصل له بغير طريق محمد صلى الله عليه وسلم وهو صادق في ذلك، لكن هذه في الحقيقة وبال عليه؛ فإن من تصرف بغير أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخذ ما لم يبحه له الرسول فولى وعـزل، وأعطى ومنـع بغير أمـر الرسول، وقتل وضرب بغير أمره، وأكرم وأهان بغير أمره، وجاءه خطاب في باطنه بالأمر والنهي، فاعتقد أن الّله أمره ونهاه من غير واسطة الرسول، كانت حالته هذه كلها من الشيطان، وكان الشيطان هو الذي يأمره وينهاه، فيأمره فيتصرف، وهو يظن أنه يتصرف بأمر اللّه؛ ولعمري هو يتصرف بأمر اللّه الكوني القدري بواسطة أمر الشيطان، كما قال تعالى في السحرة: فالحلال عنده ما أحله اللّه ورسوله، والحرام ما حرمه اللّه ورسوله، والدين ما شرعه اللّه ورسوله؛ بخلاف ذاك فإنه لا يأخذ عن الرسول الأمر والنهي الباطن، ولا ما يفعله ويأمر به، وهذا الضرب كثير في المشايخ أرباب القلوب والأحوال الذين ضعف علمهم بالكتاب والسنة ومتابعة الرسول، وغلب عليهم ما يجده أحدهم في قلبه، وما يؤمر به في باطنه، سواء وافق الرسول أو خالفه. ثم تفاوتوا في ذلك بحسب قربهم من الرسول وبعدهم منه، فكثير منهم بعد عنه حتى صار يرى أنه يعاون الكفار على قتال المسلمين، ويرى أن اللّه ـ سبحانه ـ أمره بذلك، ويعتقد أن أهل الصُّفَّة فعلوا ذلك. ومنهم من يرى أن الرسول لم يرسل إليه وإلى أشكاله، وإنما أرسل إلى العوام. ومنهم من يعتقد أن الرسول كان خاضعًا لأهل الصفة، وكانوا مستغنين عنه، إلى أمثال هذه الأصناف التي كثرت في هذه الأزمنة. وهؤلاء كلهم يدعون علم الحقيقة، ويقولون: الحقيقة لون والشريعة لون آخر، ويجمعهم شيئان: أن لهم تصرفًا وكشفًا خارجًا عما للعامة، وأنهم معرضون عن وزن ذلك بالكتاب والسنة، وتحكيم الرسول في ذلك، فهم بمنزلة الملوك الذين لهم ملك يسوسونه بغير أمر اللّه ورسوله؛ لكن الملوك لا يقول أحدهم: إن اللّه أمرني بذلك، ولا إني ولي اللّه، ولا إن لي مادة من اللّه خارجة عن الرسول، ولا إن الرسل لم تبعث إلى مثلي، وإنما الملوك يقصدون أغراضهم ولا يجعلونها دِينًا. وهؤلاء يجعلون أغراضهم التي هي من أعظم الظلم والفساد بل والكفر، يجعلون ذلك دينا يدين به أولياء اللّه عندهم؛ لأن هذه الأمور إنما تحصل لهم بنوع من الزهادة والعبادة؛ ولكن ليس هو الزهد والعبادة التي بعث اللّه بها رسوله، بل يشبهه حال أهل الكتاب والمشركين من عباد الهند والنصارى وأمثالهم. ولهذا تظهر مشابهتهم لعباد المشركين وأهل الكتاب، حتى إن من رأى عباد الهنود ثم رأى مُولِهي بيت الرفاعي أنكر وجود هؤلاء في ديار الإسلام. وقال: هؤلاء مثل عباد المشركين من الهند سواء، وأرفع من هؤلاء من يشبه عباد النصارى ورهبانهم في أمور كثيرة خارجة عن شريعة الإسلام، فلما كان فيهم دين مبتدع من جنس دين المشركين، وأهل الكتاب ظنوا ما يظنه أولئك من أن هذا دين صحيح، وأنه دين يقرب إلى اللّه، وأن أهله أولياء اللّه، فإن جميع طوائف العلماء والعباد من جميع أهل الملل يظنون [آخر ما وجد من الأصل].
بسم اللّه الرحمن الرحيم رب يسر وأعن برحمتك الحمد للّه، نستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى اللّه عليه وسلم تسليمًا. أما بعد: فقد سألني بعض الإخوان أن أكتب له مقدمة تتضمن قواعد كلية، تعين على فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه، والتمييز في منقول ذلك ومعقوله بين الحق وأنواع الأباطيل، والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل؛ فإن الكتب المصنفة في التفسير مشحونة بالغَثِّ والسمين، والباطل الواضح والحق المبين. والعلم إما نقل مصدق عن معصوم، وإما قول عليه دليل معلوم، وما سوى هذا فإما مزيف مردود، وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود. وحاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن الذي هو حبل اللّه المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يَخْلَق عن كثرة الترديد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم، ومن تركه من جبار قصمه اللّه، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله اللّه. قال تعالى: وقد كتبت هذه المقدمة مختصرة بحسب تيسير اللّه تعالى من إملاء الفؤاد، واللّه الهادي إلى سبيل الرشاد.
يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى: وذلك أن اللّه تعالى قال: ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك. وأيضًا، فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابًا في فن من العلم ـ كالطب والحساب ـ ولا يستشرحوه، فكيف بكلام اللّه الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم، وقيام دينهم ودنياهم؟ ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلاً جدًا، وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة، فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم، وكلما كـان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر. ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة، كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها؛ ولهذا قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به؛ ولهذا يعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما مـن أهل العلم، وكذلك الإمام أحمد وغيره ـ ممن صنف في التفسير ـ يكرر الطرق عن مجاهد أكثر من غيره. والمقصود أن التابعين تلقوا التفسير عن الصحابة، كما تلقوا عنهم علم السنة، وإن كانوا قد يتكلمون في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال، كما يتكلمون في بعض السنن بالاستنباط والاستدلال.
الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وذلك صنفان: أحدهما: أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى ـ بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة ـ كما قيل في اسم السيف: الصارم والمهند، وذلك مثل أسماء اللّه الحسنى،وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلم وأسماء القرآن،فإن أسماء اللّه كلها تدل على مسمى واحد، فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضادًا لدعائه باسم آخر، بل الأمر كما قال تعالى: وكل اسم من أسمائه يدل على الذات المسماة، وعلى الصفة التي تضمنها الاسم، كالعليم يدل على الذات والعلم، والقدير يدل على الذات والقدرة، والرحيم يدل على الذات والرحمة. ومن أنكر دلالة أسمائه على صفاته ممن يدعي الظاهر، فقوله من جنس قول غلاة الباطنية القرامطة الذين يقولون: لا يقال: هو حي، ولا ليس بحي، بل ينفون عنه النقيضين؛ فإن أولئك القرامطة الباطنية لا ينكرون اسمًا هو علم محض كالمضمرات، وإنما ينكرون ما في أسمائه الحسنى من صفات الإثبات، فمن وافقهم على مقصودهم كان مع دعواه الغلو في الظاهر موافقًا لغلاة الباطنية في ذلك، وليس هذا موضع بسط ذلك. وإنما المقصود أن كل اسم من أسمائه يدل على ذاته، وعلى ما في الاسم من صفاته، ويدل أيضًا على الصفة التي في الاسم الآخر بطريق اللزوم، وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، مثل محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب. وكذلك أسماء القرآن: مثل القرآن، والفرقان، والهدى، والشفاء، والبيان، والكتاب، وأمثال ذلك. فإذا كان مقصود السائل تعيين المسمى عبرنا عنه بأي اسم كان إذا عرف مسمى هذا الاسم، وقد يكون الاسم علمًا وقد يكون صفة كمن يسأل عن قوله: والمقصود أن يعرف أن الذكر هو كلامه المنزل، أو هو ذكر العبد له، فسواء قيل: ذكرى كتابي أو كلامي أو هداي أو نحو ذلك، كان المسمى واحدًا. وإن كان مقصود السائل معرفة ما في الاسم من الصفة المختصة به، فلابد من قدر زائد على تعيين المسمى، مثل أن يسأل عن القدوس السلام المؤمن، وقد علم أنه اللّه، لكن مراده ما معنى كونه قدوسًا سلامًا مؤمنًا ونحو ذلك. إذا عرف هذا، فالسلف كثيرًا ما يعبرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه، وإن كان فيها من الصفة ما ليس في الاسم الآخر، كمن يقول: أحمد هو الحاشر والماحي والعاقب. والقدوس هو الغفور، والرحيم، أي أن المسمى واحد، لا أن هذه الصفة هي هذه الصفة. ومعلوم أن هذا ليس اختلاف تضاد كما يظنه بعض الناس، مثال ذلك: تفسيرهم للصراط المستقيم: فقال بعضهم: هو القرآن، أي اتباعه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث علي الذي رواه الترمذي، ورواه أبو نعيم من طرق متعددة: (هو حبل اللّه المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم). وقال بعضهم: هو الإسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم ـ في حديث النواس ابن سمعان الذي رواه الترمذي وغيره ـ:(ضرب اللّه مثلا صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سُورَان، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وداع يدعو من فوق الصراط، وداع يدعو على رأس الصراط)، قال:(فالصراط المستقيم هو الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم اللّه، والداعي على رأس الصراط كتاب اللّه، والداعي فوق الصراط واعظ اللّه في قلب كل مؤمن)، فهذان القولان متفقان؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن، ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر، كما أن لفظ (صراط) يشعر بوصف ثالث، وكذلك قول من قال: هو السنة والجماعة. وقول من قال: هو طريق العبودية. وقول من قال: هو طاعة اللّه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأمثال ذلك، فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها. الصنف الثاني: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل، وتنبيه المستمع على النوع ـ لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى [لفظ الخبز] فأرى رغيفًا، وقيل له: هذا، فالإشارة إلى نوع هذا لا إلى هذا الرغيف وحده ـ مثال ذلك: ما نقل في قوله: فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات، والمنتهك للمحرمات، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات، والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات، فالمقتصدون هم أصحاب اليمين ثم إن كلاً منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات، كقول القائل: السابق الذي يصلى في أول الوقت، والمقتصد الذي يصلي في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار، ويقول الآخر: السابق والمقتصد والظالم قد ذكرهم في آخر سورة البقرة، فإنه ذكر المحسن بالصدقة، والظالم بأكل الربا، والعادل بالبيع. والناس في الأموال إما محسن، وإما عادل، وإما ظالم، فالسابق المحسن بأداء المستحبات مع الواجبات. والظالم آكل الربا أو مانع الزكاة. والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة، ولا يأكل الربا، وأمثال هذه الأقاويل. فكل قول فيه ذكر نوع داخل في الآية ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية له وتنبيهه به على نظيره، فإن التعريف بالمثال قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطلق، والعقل السليم يتفطن للنوع، كما يتفطن إذا أشير له إلى رغيف، فقيل له: هذا هو الخبز. وقد يجىء كثيرًا من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا، لاسيما إن كان المذكور شخصًا؛ كأسباب النزول المذكورة في التفسير، كقولهم: إن آية الظهار نزلت في امرأة أوس بن الصامت، وأن آية اللعان نزلت في عويمر العَجْلاني أو هلال بن أمية، وأن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد اللّه، وأن قوله: فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق، والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا؟ فلم يقل أحد من علماء المسلمين: إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص فيعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ. والآية التي لها سبب معين، إن كانت أمرًا ونهيًا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته، وإن كانت خبرًا بمدح أو ذم فهي متناولة لذلك الشخص وغيره ممن كان بمنزلته أيضًا. ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب؛ ولهذا كان أصح قولي الفقهاء: أنه إذا لم يعرف ما نواه الحالف، رجع إلى سبب يمينه وما هيجها وأثارها. وقولهم: نزلت هذه الآية في كذا، يراد به تارة أنه سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب، كما تقول: عنى بهذه الآية كذا. وقد تنازع العلماء في قول الصاحب [أى الصحابى]: نزلت هذه الآية في كذا، هل يجرى مجرى المسند كما يذكر السبب الذي أنزلت لأجله، أو يجرى مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند؟ فالبخاري يدخله في المسند وغيره لا يدخله في المسند. وأكثر المساند على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره، بخلاف ما إذا ذكر سببًا نزلت عقبه، فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند. وإذا عرف هذا، فقول أحدهم: نزلت في كذا، لا ينافى قول الآخر: نزلت في كذا، إذا كان اللفظ يتناولهما، كما ذكرناه في التفسير بالمثال، وإذا ذكر أحدهم لها سببًا نزلت لأجله وذكر الآخر سببًا، فقد يمكن صدقهما بأن تكون نزلت عقب تلك الأسباب، أو تكون نزلت مرتين، مرة لهذا السبب ومرة لهذا السبب. وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير، تارة لتنوع الأسماء والصفات، وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامه، كالتمثيلات ـ هما الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف. ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملاً للأمرين؛ إما لكونه مشتركًا في اللفظ كلفظ {قَسْوَرَةٍ} الذي يراد به الرامي، ويراد به الأسد، ولفظ {عَسْعَسَ} الذي يراد به إقبال الليل وإدباره،وإما لكونه متواطئًا في الأصل، لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين، كالضمائر في قوله: فمثل هذا قد يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالها السلف،و وقد لا يجوز ذلك، فالأول إما لكون الآية نزلت مرتين فأريد بها هذا تارة وهذا تارة،وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه؛ إذ قد جوز ذلك أكثر الفقهاء ـ المالكية، والشافعية، والحنبلية ـ وكثير من أهل الكلام، وإما لكون اللفظ متواطئًا فيكون عامًا، إذا لم يكن لتخصيصه موجب، فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف الثاني. ومن الأقوال الموجودة عنهم ـ ويجعلها بعض الناس اختلافًا ـ أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة لا مترادفة؛ فإن الترادف في اللغة قليل، وأما في ألفاظ القرآن فإما نادر وإما معدوم، وقَلَّ أن يعبر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدي جميع معناه، بل يكون فيه تقريب لمعناه، وهذا من أسباب إعجاز القرآن. فإذا قال القائل: وكذلك إذا قال: الوحي: الإعلام، أو قيل: والعرب تُضَمِّنُ الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته، ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض، كما يقولون في قوله: ومن قال: {لاريب}: لا شك، فهذا تقريب، وإلا فالريب فيه اضطراب وحركة، كما قال: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، وفي الحديث أنه مر بظبي حاقف [أي: نائم قد انحنى في نومه] فقال: (لا يريبه أحد)، فكما أن اليقين ضمن السكون والطمأنينة فالريب ضده ضمن الاضطراب والحركة. ولفظ [الشك] وإن قيل: إنه يستلزم هذا المعنى، لكن لفظه لا يدل عليه. وكذلك إذا قيل: {ذَلِكَ الْكِتَابُ}: هذا القرآن، فهذا تقريب؛ لأن المشار إليه وإن كان واحدًا، فالإشارة بجهة الحضور غير الإشارة بجهة البعد والغيبة، ولفظ [الكتاب] يتضمن من كونه مكتوبًا مضمونًا ما لا يتضمنه لفظ القرآن من كونه مقروءًا مظهرًا باديًا. فهذه الفروق موجودة في القرآن. فإذا قال أحدهم: ونحن نعلم أن عامة ما يضطر إليه عموم الناس من الاختلاف معلوم بل متواتر عند العامة أو الخاصة، كما في عدد الصلوات ومقادير ركوعها ومواقيتها، وفرائض الزكاة ونصبها، وتعيين شهر رمضان، والطواف والوقوف، ورمي الجمار، والمواقيت وغير ذلك. ثم اختلاف الصحابة في الجد والأخوة وفي المشركة ونحو ذلك، لا يوجب ريبًا في جمهور مسائل الفرائض، بل ما يحتاج إليه عامة الناس هو عمود النسب من الآباء والأبناء، والكلالة من الأخوة والأخوات، ومن نسائهم كالأزواج؛ فإن اللّه أنزل في الفرائض ثلاث آيات مفصلة، ذكر في الأولى الأصول والفروع، وذكر في الثانية الحاشية التي ترث بالفرض كالزوجين وولد الأم، وفي الثالثة الحاشية الوارثة بالتعصيب وهم الأخوة لأبوين أو لأب، واجتماع الجد والأخوة نادر؛ ولهذا لم يقع في الإسلام إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم؛والاختلاف قد يكون لخفاء الدليل أو لذهول عنه، وقد يكون لعدم سماعه، وقد يكون للغلط في فهم النص، وقد يكون لاعتقاد معارض راجح، فالمقصود هنا التعريف بجمل الأمر دون تفاصيله.
|